رعاية الشريعة لمصالح الناس
د. مريم بنت سعيد العزرية -
باحثة شؤون إسلامية -
إن الشريعة الإسلامية -بل الشرائع كلها- إنما وضعت لتحقيق المصالح الدنيوية والأخروية للناس مع ما تستلزمه من درء المفاسد والمضار. فالمقاصد التي ترعاها أحكام الشريعة والمصالح التي ترمي إليها جملة نصوصها وأحكامها هي روح التشريع في كل مجالاته، ولاستيعابها أهمية كبيرة في التوصل إلى الفهم الصحيح للخطاب الشرعي ومراداته، وهي حسن الامتثال للتكاليف الشرعية، وتوسيع مشمولات النصوص الشرعية وتكثيرها حتى تستوعب أكبر قدر ممكن من المستجدات؛ فتكون الشريعة بذلك قادرة على الاستجابة لقضايا العصر والتفاعل مع الوقائع الجديدة، وهكذا يظل اعتبار المعاني والمقاصد ورعايتهما في استنباط الأحكام يزود حركة الاجتهاد برافد عظيم لا غنى لها عنه، وقد كان لضمورها أكبر الأثر في جمود الفقه الإسلامي وعجزه عن مسايرة تطورات الحياة؛ إذ لا يمكن أن يقوم اجتهاد صحيح على غير اعتبارها، وفي هذا تأكيد على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان وعمومها لكل الناس.
ولذا فإن البحث عن مقاصد النصوص الشرعية وتحريها وإعمالها والحكم بما يحققها ويوافقها يعتبر من لوازم النظر في الأدلة والاجتهاد فيها بغية التوصل إلى الحكم الصحيح منها، ولا يستقيم بمنأى عنها؛ إذ إنه لا يكفي الوقوف على معنى النصوص من خلال ألفاظها الظاهرة أو دلالاتها في ذاتها أو حسب المقام الذي سيقت فيه، بل لا بد من البحث وراء ظاهر ألفاظ النصوص لأجل التعرف على مرادات الشارع منها ومقصده؛ فالنص هو تجسيد لإرادة الشارع في تحقيق مقصد معين، ينبغي على المجتهد أن يستفرغ وسعه في تعيين ذلك المقصد، فيُجري على أساسه فهم النص وتنزيله في الواقع.
وتتجلى رعاية الشريعة لمصالح الناس وتوجيه الأنظار إلى اعتبار ذلك في استنباط الأحكام الشرعية في أن نصوصها وأحكامها جاءت معلّلة بمصالح وحِكم وأسرار ومقاصد وضعت من أجلها بعضها صريح في النصوص، كقوله تعالى: لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ١٨٣ البقرة:183، وقوله سبحانه: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡۗ﴾ التوبة:103] ونحوها من النصوص الشرعية، وهذا التعليل يفيد أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فإذا كانت المصلحة التي شرع لها الحكم دائمة فلا يتغير الحكم أبداً، وإذا ثبت أنها تتغير تبعا لتغير الظروف والأحوال تغير الحكم معها، وإلا لم تكن ثمة فائدة من شرعيته. ولهذا منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن كان رسول الله يعطيهم لما زال سبب التأليف.
وكذلك يلاحظ اختلاف أسلوب التشريع في الإسلام، ففي الأشياء التي لا تتغير مصالحها فصلها الشرع وبينها أجلى بيان، كالعبادات والزواج والطلاق والميراث، كما حدد عقوبات لبعض الجنايات التي لا تتغير مفسدتها على مر العصور. وأما في الأشياء التي تتغير مصالحها أو تختلف باختلاف الأزمان كالمعاملات وما يتعلق بالنظام الاجتماعي أتى تشريعه على هيئة قواعد عامة صالحة للتطبيق حسبما تقتضيه مصالح الناس، حتى جعل للعرف أثراً كبيراً فيها فيما ليس فيه نص منها. ولا أدل على رعاية الشريعة لمصالح الناس في عهد الرسالة من وجود النسخ في بعض الأحكام الشرعية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى قد شرع بعض الأحكام ثم أبطلها ونسخها لما اقتضت المصلحة ذلك.
إن الحكم على أمر ما بأنه مصلحة معتبرة ومقصود للشارع أو غير مقصود له هو أمر بالغ الصعوبة يحتاج إلى تأن ودقة في الفهم والاستنباط، ولا يكون ذلك إلا برسم طرق واضحة منضبطة للكشف عنها؛ لأن الخوض في مقاصد النصوص بدون منهج منضبط بقواعد وشروط محددة يمكن أن يكون وسيلة تؤتى من قبلها النصوص الشرعية، وذلك عن طريق التلاعب بمعاني النصوص وتحميلها عللا وحكما ومصالح لا تمت إليها بصلة، ومن ثم هدم المقاصد الشرعية ونسفها أو الإضرار بالشريعة عموما بإلحاق التعارض بين القطعيات والظنيات من جهة وبين الضروريات وغيرها من مراتب المقاصد.
وفي غياب النهج الصحيح المنضبط لفهم المصالح وتبين حقيقتها قد يدخل في تقديرها وتحصيلها هوى الناس وخيالاتهم وأوهامهم؛ فلذا لا بد من سد الباب عن التوسع فيها لدرجة الغلو في تجاوز ضروريات الدين ومبادئ الشريعة وأحكامها المؤكدة بافتراض مقاصد من خارج النصوص بل وتقديمها على جزئيات الشريعة. وكذلك لا بد من سد الباب على المضيقين لها والواقفين عند مجرد دلالات ظواهر النصوص وحرفيتها دون عليتها وحكمها، حيث يقصرون إثبات المقاصد على ظواهر النصوص فقط دون اهتمام بعلل الأحكام والمقامات التي صدرت فيها ونحوها من دواعي فهم غائية النصوص وتقصيدها.
ومن أجل ذلك كله حرص العلماء على التعرف على تلك الطرق المنضبطة التي تعرف بها المصالح الشرعية وتقدر بها، فكان لهم مناقشات وصياغات عديدة لتلك الطرق، تنطلق جميعها من ظواهر النصوص الشرعية مع التأمل في عللها وسياقاتها، واستقراء جملة نصوص الشارع وتصرفاته فيما قرره من أحكام أو سكت عنه، مع عدم إغفال فهم الصحابة لأحكام الشريعة، وإثبات دور العقل في تقرير المصالح والمقاصد. وقد قيدوا المصالح المعتبرة في الشرع بصفات تعرف بها وضوابط تحدّ بها، وسيتم التعرف عليها في المقال التالي بعون الله.